(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

السبت، يناير 30، 2016

نعمة الخبز

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين وبعد:
   فمن نِعَم الله تبارك وتعالى على الإنسان أن أباح له التمتع والتلذذ بالطعام والشراب؛ بقصد التقوى على فعل الخيرات، قال تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)[1]، وقال عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ)[2] ولما كان لنعمة الطعام أثر في حياة الإنسان، جاء الهدي النبوي بآداب يتحلى بها المسلم في أكله، ويتضح لنا هذا الهدي النبوي بقاعدة عظيمة أخبرنا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: {مَا مَلأَ آدمي وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطْنٍ بِحَسْبِ ابْنِ آدَمَ أُكُلاَتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ فَإِنْ كَانَ لاَ مَحَالَةَ فَثُلُثٌ لِطَعَامِهِ وَثُلُثٌ لِشَرَابِهِ وَثُلُثٌ لِنَفَسِهِ}[3]، فمن الآداب التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم في أكله وطعامه أن يُكْرِمَ ويحترم الخبز.


أولا: إكرام الخبز.
   عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {أَكْرِمُوا الْخُبْزَ وَإِنَّ كَرَامَةَ الْخُبْزِ أَنْ لَا يُنْتَظَرَ بِهِ}[4]، وعن أبي سكينة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {أَكْرِمُوا الْخُبْزَ فَإِنَّ اللَّهَ أَكْرَمَهُ، فَمَنْ أَكْرَمَ الْخُبْزَ أَكْرَمَهُ اللَّهُ}[5]، من خلال هذين الحديثين نذكر بعض فضائل الخبز وإكرامه على النحو الآتي:
1.  النظر إليه بعين الإجلال والتعظيم والاعتراف بأنه من فيض الفضل العميم إذ به حياة الأشباح وبعموم وجوده حصول الروح والارتياح[6].
2.  أن في أكله صحة للجسم، فعن أبي برزة الأسلمي رضي الله عنه، قال: {كَانَتِ الْعَرَبُ تَقُولُ: مَنْ أَكَلَ الْخُبْزَ سَمِنَ، فَلَمَّا فَتَحْنَا خَيْبَرَ أَجْهَضْنَاهُمْ عَنْ خُبْزَةٍ لَهُمْ، فَقَعَدْتُ عَلَيْهَا فَأَكَلْتُ مِنْهَا حَتَّى شَبِعْتُ فَجَعَلْتُ أَنْظُرُ فِى عِطْفَيَّ هَلْ سَمِنْتُ ؟}[7].
3.  أن في إكرام الخبز لسائر أنواعه إكرام الرضى بالموجود من الرزق وعدم الاجتهاد في التنعم وطلب الزيادة، فمن كلام الحكماء: "الخبز يُباس ولا يُداس"[8].
4.  أنه من أيسر ما يقدّم للضيف من الطعام، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الأعمال أفضل؟ قال: {أَنْ تُدْخِلَ عَلَى أَخِيكَ الْمُسْلِمِ سُرُورًا أَوْ تَقْضِي عَنْهُ دَيْنًا، أَوْ تُطْعِمَهُ خُبْزًا}[9]، يقول المناوي في شرح الحديث: "وإنما خص الخبز لعموم تيسر وجوده حتى لا يبقى للمرء عذر في ترك الأفضال على الأخوان"[10].
5.  أن يُلتقط كسر الخبز أو فُتاته من الأرض ويُمسح ويُأكل، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: {دَخَلَ النَّبِي صلى الله عليه وسلم الْبَيْتَ فَرَأَى كِسْرَةً مُلْقَاةً فَأَخَذَهَا فَمَسَحَهَا ثُمَّ أَكَلَهَا وَقَالَ: يَا عَائِشَةُ أَكْرِمِي كَرِيمَكِ فَإِنَّهَا مَا نَفَرَتْ عَنْ قَوْمٍ قَطُّ فَعَادَتْ إِلَيْهِمْ}[11].
6.  صرح فقهاء الشافعية بجواز تقبيل الخبز, وقالوا: إنه بدعة مباحة أو حسنة؛ لأنه لا دليل على التحريم ولا الكراهة؛ لأن المكروه ما ورد عنه نهي, أو كان فيه خلاف قوي, ولم يرد في ذلك نهي, فإن قصد بذلك إكرامه لأجل الأحاديث الواردة في إكرامه فحسن, وقال صاحب الدر من الحنفية مؤيدا قول الشافعية في جواز تقبيل الخبز: "وقواعدنا لا تأباه"[12].  
ثانيا: امتهان الخبز.
   لا شك أن الخبز نعمة من نعم الله سبحانه وتعالى، ونعم الله ينبغي أن تصان عن الامتهان والاحتقار، والاستخفاف بالخبز يورث الغلاء والقحط،  فمن الطرق التي يستخدمها بعض الناس في امتهان الخبز:
1.  طرح كسر الخبز على الأرض امتهانا به، فالخبز غذاء البدن والغذاء قوام الأرواح وقد شرفه الله وجعله من أشرف الأرزاق وأنزله من بركات السماء نعمة منه، فمن رمى به أو طرحه مطرح الرفض والهوان، فقد سخط النعمة وكفرها، وإذا جفا العبد نعمة نفرت منه، وإذا نفرت منه لم تكد ترجع[13].
2.  وضع ما تبقى من الخبز في سلة النفايات، إذ يحرم إلقاء شيء من الطعام الصالح للأكل في القمامة ومنها الخبز؛ لأن الطعام نعمة من الله تعالى، وفي إلقائه إساءة لهذه النعمة من وجهين:
·   الوجه الأول: أن في ذلك احتقاراً للنعمة، وكفراً بها، والواجب على المسلم أن يكون شاكراً لله على نعمه وعطاياه.
·   الوجه الثاني: أن هذا التصرف فيه إتلاف للمال، وقد نهى عن ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: {إِنَّ اللَّهَ كَرِهَ لَكُمْ ثَلاثاً: قِيلَ وَقالَ، وَإضَاعَةَ المالِ، وَكَثْرَةَ السُّؤالِ}[14]، وقد نهى الله تعالى عن الإسراف في الأكل والشرب، قال تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ([15]، فمن باب أولى بالتحريم إتلاف المال؛ لأن إتلاف المال أشدّ سوءاً من الإسراف فيه، والله تعالى لا يحب المسرفين.
3.  إطفاء المدخن السيجارة على قطعة الخبز، وهذا فيه امتهان للخبز، والله تبارك وتعالى كرّم الخبز على سائر الأطعمة.
4.  اعتبر بعض الفقهاء أن الأكل من وسط الخبز وترك حواشيه، أو الأكل ما انتفخ منه، أو مسح السكين والأصبع به عند الفراغ من الأكل، أنه من الإسراف المنهي عنه، يقول فقهاء الحنفية: "من الإسراف أن يأكل وسط الخبز ويدع حواشيه أو يأكل ما انتفخ من الخبز كما يفعله بعض الجهال يزعمون أن ذلك ألذ, ولكن هذا إذا كان غيره لا يتناول ما ترك هو من حواشيه, أما إذا كان غيره يتناول ذلك فلا بأس كأن يختار لتناوله رغيفا دون رغيف, ومن الإسراف التمسح بالخبز عند الفراغ من الطعام من غير أن يأكل ما يمسح به; لأن غيره يتقذر ذلك فلا يأكله فأما إذا كان هو يأكل ما يمسح به فلا بأس بذلك"[16].
5.  دوس الخبز بالقدم عمداً يدخل في كفران نعمة الله جل جلاله، وليس صحيحاً أنه لا كرامة للخبز بل له كرامة كما ورد في الحديث سالفا، وقد قال الحكماء: "الخبز يُباس ولا يُداس".
6.  وضع الأواني أو المملحة أو غير ذلك على الخبز مكروه؛ لأنه نوع من الاستخفاف به[17]، وقد كرّم الله تعالى الخبز كما ذكرنا سالفا.
ثالثا: الحلول المقترحة للحفاظ على الخبز الزائد.
1.    وضع الخبز المتبقي بعد الانتهاء من وجبة الأكل في وعاء خاص مثل "كيس ورق أو بلاستك".
2.    الاستفادة من الخبز المتبقي حتى ولو كان يابسا على النحو الآتي:
أ‌.   استخدام فُتات الخبز وخلطه مع المرقة ليكون وجبة أكل كاملة وخصوصا في فصل الشتاء، فعن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه قال: {كُنْتُ مِنْ أَصْحَابِ الصُّفَّةِ فَشكَا أَصْحَابِي الْجُوعَ، فَقَالُوا: يَا وَاثِلَةُ، اذْهَبْ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَاسْتَطْعِمْ لَنَا، فَأَتَيْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّ أَصْحَابِي يَشْكُونَ الْجُوعَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: يَا عَائِشَةُ هَلْ عِنْدَكِ مِنْ شَيْءٍ؟ قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا عِنْدِي إِلا فُتَاةُ خُبْزٍ، قَالَ: هَاتِيهِ، فَجَاءَتْ بِجِرَابٍ فَدَعَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم بِصَحْفَةٍ، فَأَفْرَغَ الْخُبْزَ فِي الصَّحْفَةِ، ثُمَّ جَعَلَ يُصْلِحُ الثَّرِيدَ بِيَدَيْهِ، وَهُوَ يَرْبُو حَتَّى امْتَلأَتِ الصَّحْفَةُ... الخ}[18].
ب‌. إعطاء الخبز المتبقي لأصحاب المراعي من الغنم وغيرها أو للدواجن والطيور لتتغذى عليه، يقول ابن نجيم من الحنفية: "رجل أكل الخبز مع أهله واجتمع كسيرات الخبز ولا يشتهي أكلها فله أن يطعمه الدجاجة والشاة والهرة وهو الأفضل ولا ينبغي أن يلقيه في النهر والطريق إلا إذا وضع لأجل النمل ليأكل النمل فحينئذ يجوز هكذا فعل بعض السلف"[19].





[1] سورة الأعراف: من الآية 32.
[2] سورة البقرة: من الآية 172.
[3] رواه الترمذي، وقال عنه: حسن صحيح.
[4]  رواه الحاكم في مستدركه، وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[5] رواه الطبراني في معجمه الكبير، وقال عنه الهيثمي: إسناده ضعيف، مجمع الزوائد، ج 2 ص 34.
[6] المناوي، التيسير بجامع الشرح الصغير، ج 1 ص 407.
[7] رواه الحاكم في مستدركه، وقال عنه: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه.
[8] المناوي، فتح القدير، ج 2 ص 116.
[9] رواه البيهقي في شعب الإيمان، حديث رقم "7273".
[10] المناوي، فتح القدير، ج 2 ص 25.
[11] رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف.
[12] الشرواني، حاشية الشرواني على المنهاج، ج 7 ص 435. ابن عابدين، الدر المختار، ج 6 ص 384.
[13] المناوي، فتح القدير، ج 2 ص 92.
[14]  رواه البخاري  ومسلم.
[15] سورة الأعراف: من الآية 31.
[16] ابن نجيم، البحر الرائق، ج 8 ص 208. السرخسي، المبسوط، ج 30 ص 267. ابن عابدين، الدر المحتار، ج 6 ص 340.
[17] الخادمي، بريقة محمودية، ج 4 ص 108.
[18] رواه الطبراني في معجمه الكبير حديث رقم (208)، وقال عنه الهيثمي: إسناده حسن، مجمع الزوائد، ج 8 ص 305.
[19]ابن نجيم، البحر الرائق، ج 8 ص 209.

التعليقات
0 التعليقات
جميع الحقوق محفوضة@2015 : د.حسن بن جازي الحويطات