(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

السبت، يناير 30، 2016

المدة الزمنية بين الأذان والإقامة

يتسائل بعض المصلين عن مقدار المدة الزمنية الفاصلة بين الأذان والإقامة في الصلوات الخمس، وهل لها أصل في الشريعة الإسلامية؟ وما الحكم الشرعي لتقدير الفقهاء في عصرنا الحالي لهذه المدة كأن تكون لصلاة الصبح نصف ساعة، ولصلاة الظهر والعصر ربع ساعة، ولصلاة المغرب خمس دقائق، ولصلاة العشاء عشر دقائق؟
ولبيان أحكام هذه المسألة وما يتعلق بها من مسائل أخرى، ستكون الإجابة على النحو الآتي:


* المسألة الأولى: دخول وقت الصلاة: أجمع المسلمون على أن الصلوات الخمس مؤقتة بمواقيت معلومة محدودة([1]), والعلم بدخول وقت الصلاة شرط من شروط صحتها عند الفقهاء، فمن صلى قبل الوقت كل الصلاة أو بعضها لم تجز صلاته اتفاقاً، سواء فعله عمداً أو خطأ؛ لأن الوقت كما هو سبب لوجوب الصلاة فهو شرط لصحتها، قال الله تعالى: {إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا}  [النساء: 103]، أي فرضاً مؤقتاً، حتى لا يجوز أداء الفرض قبل وقته، ولأن الصلاة فرضت لأوقاتها فقد تكرر وجوبها بتكرر الوقت، فلو شك في دخول وقت العبادة فأتى بها، فبان أنه فعلها قبل الوقت لم يجزه([2])، كما اتفق الفقهاء على تحريم تأخير الصلاة حتى يخرج وقتها بلا عذر شرعي([3]).
واعلم أن دخول وقت الصلاة المفروضة شرط للأذان، فلا يصح الأذان قبل دخول الوقت؛ لأن الأذان شرع للإعلام بدخول الوقت، فإذا قدم على الوقت لم يكن له فائدة، وإذا أذن المؤذن قبل الوقت أعاد الأذان بعد دخول الوقت، إلا إذا صلى الناس في الوقت وكان الأذان قبله فلا يعاد([4])، قال ابن قدامة: "وإذا سمع الأذان من ثقة عالم بالوقت فله تقليده; لأن الظاهر أنه لا يؤذن إلا بعد دخول الوقت, فجرى مجرى خبره, وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: {المُؤَذّنُ مُؤْتَمَنٌ}([5])، ولولا أنه يقلَّد ويُرجَع إليه ما كان مؤتمناً، ولأن الأذان مشروع للإعلام بالوقت، فلو لم يجز تقليد المؤذن لم تحصل الحكمة التي شرع الأذان من أجلها, ولم يزل الناس يجتمعون في مساجدهم وجوامعهم في أوقات الصلاة, فإذا سمعوا الأذان قاموا إلى الصلاة وبنوا على أذان المؤذن، من غير اجتهاد في الوقت ولا مشاهدة ما يعرفونه من غير نكير, فكان إجماعاً"([6]).
* المسألة الثانية: التغليس بالفجر: والمقصود بالتغليس أداء صلاة الفجر في أول وقتها عند تحقق طلوع الفجر، قال ابن قدامة: "إن وقت الصبح يدخل بطلوع الفجر الثاني إجماعاً, وقد دلت عليه أخبار المواقيت, وهو البياض المستطير المنتشر في الأفق, ويسمى الفجر الصادق; لأنه صدقك عن الصبح وبينه لك, والصبح ما جمع بياضاً وحمرة, ومنه سمي الرجل الذي في لونه بياض وحمرة أصبح"([7])، وقد ذهب جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة([8]) إلى أن الأفضل تعجيل الصبح في أول وقتها عند تحقق طلوع الفجر؛ للأدلة الآتية:
1-     قول الله تعالى: (فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ)  [البقرة: 148]، وبقوله تعالى: (حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ)، [البقرة: 238]، ومن المحافظة تقديمها في أول الوقت; لأنه إذا أخَّرَها عرَّضَها للفوات, ويقول الله عز وجل: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ)، [آل عمران: 133] والصلاة تحفظ ذلك([9]).
2-     ما رُوِي عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ -رضي الله عنه-: {أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَزَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ -رضي الله عنه- تَسَحَّرَا، فَلَمَّا فَرَغَا مِنْ سَحُورِهِمَا قَامَ نَبِيُّ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الصَّلاَةِ فَصَلَّى. قُلْنَا لأَنَسٍ: كَمْ كَانَ بَيْنَ فَرَاغِهِمَا مِنْ سَحُورِهِمَا وَدُخُولِهِمَا فِي الصَّلاَةِ؟ قَالَ: قَدْرُ مَا يَقْرَأُ الرَّجُلُ خَمْسِينَ آيَةً}([10])، قال ابن حجر: "وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِهِ عَلَى أَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الصُّبْحِ طُلُوعُ الْفَجْرِ؛ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي يَحْرُمُ فِيهِ الطَّعَامُ وَالشَّرَابُ، وَالْمُدَّةُ الَّتِي بَيْنَ الْفَرَاغِ مِنَ السُّحُورِ وَالدُّخُولِ فِي الصَّلَاةِ -وَهِيَ قِرَاءَةُ الْخَمْسِينَ آيَةً أَوْ نَحْوِهَا- قَدْرُ ثُلُثِ خُمُسِ سَاعَةٍ، وَلَعَلَّهَا مِقْدَارُ مَا يَتَوَضَّأُ، فَأَشْعَرَ ذَلِكَ بِأَنَّ أَوَّلَ وَقْتِ الصُّبْحِ أَوَّلُ مَا يَطْلُعُ الْفَجْرُ، وَفِيهِ أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَدْخُلُ فِيهَا بِغَلَسٍ"([11]).
3-     ما روي عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- قَالَتْ: "كُنَّ نِسَاءُ المُؤْمِنَاتِ يَشْهَدْنَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَلاَةَ الفَجْرِ مُتَلَفِّعَاتٍ بِمُرُوطِهِنَّ، ثُمَّ يَنْقَلِبْنَ إِلَى بُيُوتِهِنَّ حِينَ يَقْضِينَ الصَّلاَةَ، لاَ يَعْرِفُهُنَّ أَحَدٌ مِنَ الغَلَسِ"([12])، قال الإمام الشافعي: "فقلنا: إذا انقطع الشك في الفجر الآخر وبان معترضاً فالتغليس بالصبح أحب إلينا؛ لأن التغليس أولاهما بمعنى كتاب الله وأثبتهما عند أهل الحديث وأشبههما بحمل سنن النبي صلى الله عليه وسلم وأعرفهما عند أهل العلم... ولم يخالف أحد أن الفجر إذا بان معترضاً فقد جاز أن يصلي الصبح، علمنا أن مؤدي الصلاة في أول وقتها أولى بالمحافظة عليها من مؤخرها"([13]).
* المسألة الثالثة: المدة الزمنية الفاصلة بين الأذان والإقامة: صرح الفقهاء باستحباب الفصل بين الأذان والإقامة بصلاة أو جلوس أو وقت يسع حضور المصلين فيما سوى المغرب، مع ملاحظة الوقت المستحب للصلاة، وتُكرَه عندهم الإقامة للصلاة بعد الأذان مباشرة بدون هذا الفصل؛ لما روي عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ -رضي الله عنه- قَالَ: "قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {يَا بِلالُ، اجْعَلْ بَيْنَ أَذَانِكَ وَإِقَامَتِكَ نَفَسًا يَفْرُغُ الآكِلُ مِنْ طَعَامِهِ فِي مَهَلٍ، وَيَقْضِي الْمُتَوَضِّئُ حَاجَتَهُ فِي مَهَلٍ}([14])، ولأن المقصود بالأذان إعلام الناس بدخول الوقت ليتهيأوا للصلاة بالطهارة فيحضروا المسجد، وبالوصل ينتفي هذا المقصود وتفوت صلاة الجماعة على كثير من المسلمين([15])، قال الشوكاني: "والحديث يدل على مشروعية الفصل بين الأذان والإقامة وكراهة الموالاة بينهما؛ لما في ذلك من تفويت صلاة الجماعة على كثير من المريدين لها; لأن من كان على طعامه أو غير متوضئ حال النداء إذا استمر على أكل الطعام أو توضأ للصلاة فاتته الجماعة أو بعضها بسبب التعجيل وعدم الفصل، لا سيما إذا كان مسكنه بعيداً عن مسجد الجماعة, فالتراخي بالإقامة نوع من المعاونة على البر والتقوى المندوب إليها"([16]).
وقد ورد عن بعض الفقهاء تحديد مقدار الفصل بين الأذان والإقامة على النحو الآتي:
1-     روى الحسن عن أبي حنيفة أن مقدار الفصل في الفجر قدر ما يقرأ عشرين آية، وفي الظهر قدر ما يصلي أربع ركعات يقرأ في كل ركعة نحواً من عشر آيات، وفي العصر مقدار ما يصلي ركعتين يقرأ في كل ركعة نحواً من عشر آيات([17]).
2-     قال الإمام النووي: "المستحب أن يقعد بين الأذان والإقامة قعدة ينتظر فيها الجماعة؛ لأنه إذا أوصل الأذان بالاقامة فات الناس الجماعة فلم يحصل المقصود بالأذان، واتفق أصحابنا على استحباب هذه القعدة قدر ما تجتمع الجماعة إلا في صلاة المغرب فإنه لا يؤخرها؛ لضيق وقتها، ولأن الناس في العادة يجتمعون لها قبل وقتها"([18]).
3-     قال ابن قدامة: "ويستحب أن يفصل بين الأذان والإقامة بقدر الوضوء وصلاة ركعتين يتهيئون فيها، وفي المغرب يفصل بجلسة خفيفة"([19]).
4-               وقال ابن بطال: "لا حد لذلك غير تمكن دخول الوقت واجتماع المصلين"([20]).
أما في المغرب فقد اتفق الفقهاء على تعجيل الإقامة فيها لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ عِنْدَ كُلِّ أَذَانَيْنِ رَكْعَتَيْنِ مَا خَلَا الْمَغْرِبَ}([21])؛ لأن مبنى المغرب على التعجيل، ولما روى أبو أيوب الأنصاري -رضي الله عنه- عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: {لا تَزَالُ أُمَّتِي بِخَيْرٍ -أَوْ قَالَ: عَلَى الْفِطْرَةِ- مَا لَمْ يُؤَخِّرُوا الْمَغْرِبَ إِلَى أَنْ تَشْتَبِكَ النُّجُومُ}([22])، وعلى هذا يسن أن يكون الفصل بين الأذان والإقامة فيها يسيراً، وللعلماء في مقدار هذا الفصل اليسير أقوال([23]):
أ‌.     قال أبو حنيفة والمالكية: يفصل بين الأذان والإقامة في المغرب قائماً بمقدار ثلاث آيات، ولا يفصل بالصلاة؛ لأن الفصل بالصلاة تأخير، كما لا يفصل المقيم بالجلوس؛ لأنه تأخير للمغرب، ولأنه لم يفصل بالصلاة، فبغيرها أولى.
ب‌.   وقال أبو يوسف ومحمد: يفصل بجلسة خفيفة كالجلسة بين الخطبتين، وهو الراجح عند الشافعية والحنابلة، ووجه قولهم أن الفصل مسنون ولا يمكن بالصلاة، فيفصل بالجلسة لإقامة السنة.
ت‌.   وأجاز الحنابلة وبعض الشافعية الفصل بركعتين بين الأذان والإقامة في المغرب، أي أنهما لا يكرهان ولا يستحبان.
* الخلاصة: إن أقل ما يقال في وقت الفصل بين الأذان والإقامة جلسة خفيفة كما في صلاة المغرب، أو بمقدار الوضوء وصلاة ركعتين كما في باقي الصلوات، وهذه المسألة من المسائل التقديرية التي ترجع إلى فقه إمام المسجد واجتهاده، لكن مع مراعاة الأمور الآتية:
-         الوقت المستحب لأداء الصلاة.
-   تقدير المدة الزمنية التي يجتمع فيها الناس للصلاة، وهذه تختلف باختلاف الأمكنة كالمدن والقرى، والأزمنة كموسم الحج وشهر رمضان وباقي الأيام الأخرى.
-         تمكين المصلين من أداء تحية المسجد أو السُنّة القبلية للصلاة.





([1]) المغني لابن قدامة 1/224.
([2]) البدائع 1/ 349. والمبسوط 1/141، 154. وحاشية رد المحتار 1/370. وشرح الخرشي وعليه حاشية العدوي 1/217. وحاشية الجمل 1/407. والقواعد والفوائد الأصولية، ص90. والمغني 1/350. وقواعد ابن رجب، ص370،371. وكشاف القناع 1/249، 257، 258.
([3]) الدسوقي 1/189،263. والمجموع 3/13.
([4]) الحطاب 1/428. وكشاف القناع 1/220. والمجموع 3/87. والبدائع 1/154.
([5]) سنن أبي داود، كتاب: الصلاة، باب: ما يجب على المؤذن من تعاهد الوقت، حديث (517).
([6]) المغني 1/233. 
([7]) المغني 1/232.
([8]) الموطا 1/8. وبلغة السالك 1/73. والمجموع 3/53. والإقناع 1/378،379. والمغني 1/405.
([9]) المجموع 3/53.
([10]) صحيح البخاري، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت الفجر، حديث (576).
([11]) فتح الباري 2/55.
([12]) صحيح البخاري، كتاب: مواقيت الصلاة، باب: وقت الفجر، حديث (578).
([13]) الإمام الشافعي، الأم، 8/633.
([14]) أخرجه عبد الله بن أحمد في زياداته على مسند الإمام أحمد بإسناد ضعيف، حديث (21285
([15]) مراقي الفلاح 1/10. وبدائع الصنائع ا/410. والخرشي 1/235. وأسنى المطالب 1/130. وكشاف القناع 1/221.
([16]) نيل الأوطار 2/12.
([17]) بدائع الصنائع ا/410.
([18]) المجموع 3/120.
([19]) المغني 2/219.
([20]) فتح الباري 2/14.
([21]) السنن الكبرى للبيهقي، كتاب: الصلاة، باب: من جعل قبل صلاة المغرب ركعتين، حديث (4172). 
([22]) سنن أبي داود، كتاب: الصلاة، باب: في وقت المغرب، حديث (418).
([23]) مراقي الفلاح 1/10. وبدائع الصنائع ا/410. والخرشي 1/235. وأسنى المطالب 1/130. وكشاف القناع 1/221.
التعليقات
0 التعليقات
جميع الحقوق محفوضة@2015 : د.حسن بن جازي الحويطات