(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

السبت، يناير 30، 2016

التكفير العيني حكم قضائي

إن معظم ما يجري من عمليات التفجير والتقتيل والترويع وحتى الاختطاف من قبل بعض المسلمين في عصرنا الحالي  يقوم في النهاية على تبرير (التكفير): فما هو التكفير؟ ومن له الحق في تكفير أعيان الناس؟ وما خطورته على المسلمين؟
أولا: التكفير من مصدر كفر، والكفر في الشرع: نقيض الإيمان وهو جحود الوحدانية أو الشريعة أو النبوة، والكافر على الإطلاق متعارف فيمن يجحد الوحدانية أو النبوة أو الشريعة أو ثلاثتها"([1])، والتكفير: هو نسبة أحد من أهل القبلة إلى الكفر سواء كانوا أفرادا أو جماعات.


ثانيا: تكفير الأعيان حكم قضائي ليس من باب الفتوى([2]).
سمعنا وما زلنا نسمع أنه في الندوة الفلانية، أو الشخص الفلاني قال بكفر فلان، وربما يكون هذا القائل من أفاضل الدعاة الذين يسمع لوعظهم، وقد يكون المكفَّر الآخر خيرا دَيـِّـنا صالحا، وربما لا يكون هناك تكفير أصلا ولكن تستغل القنوات ذات الخلفية اللادينية أي كلمة أو أي موقف لاستغلاله من طَرْف خفي لتشويه الإسلام، وربما يكون ذلك صريحا مرة، وغَمْزا مرات، وهذا دَيْدن المنافقين الذي قال الله فيهم:(وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ)  .([3])
إن التكفير يحتاج إلى تقصي حالة المتهم الصحية، والفكرية، وظروفه التي أدت إلى قوله، وما يعلمه من الدين بالضرورة، وما لا يعلمه، وهل وقف على دعائم الإسلام قبل إسلامه أم لا، وما حظه من التعليم الديني، ويجب مناقشته فكريا من لجنة من العلماء الذين يقدمون له الحجج والبراهين، وله حق الرجوع عن قوله بعد التبين كل ذلك يكون بمحضر القاضي في الإسلام المنصَّب من الحاكم.
ثالثا: لماذا التكفير حكم قضائي وليس من باب الفتوى؟([4])
1-  إن الحكم بتكفير الشخص المعين هو حكم في الأموال والدماء، وهذا ليس من شأن الفتوى لا من قريب ولا من بعيد، ولا من شأن الندوات والمؤتمرات، والبرامج الحوارية، لأن القصد من الفتوى هو طلب البراءة عند الله تعالى، أما القضاء فهو رفع الخصومة وحماية المال والدماء، والمجتمع ومؤسساته، والمؤتمرات والندوات والبرامج الحوارية ليست مؤهلة للقيام بالإجراءات وإصدار الأحكام لأنها مفتقرة إلى القوة الشرعية التي منحتها الأمة للحاكم لحماية المجتمع من العابثين بقاعدته الفكرية الحافظة لبقائه واجتماع كلمته، وهذا الحاكم أناب القاضي مكانه للقيام بهذه الوظيفة الحامية للمجتمع من التفكك وعبث العابثين، ومن ثَمَّ فإن حكم القاضي ليس حكم القاضي فحسب، بل هو حكم الأمة لأن سلطته مستمدة من الحاكم، الذي يستمد سلطته من الأمة، ومن ثَمَّ فإن مَن حَكَم وقضى هو الأمة في شخص القاضي المنصَّب من قبلها.
2-  وأيضا التكفير المُعيّن حكمٌ قضائي لما يترتب عليه من أحكام تدخل في أبواب الحدود وضمن صلاحيات القضاء، ولما يستوجب الحكم على المعين من تبيّن وإقامة الحجة وتحديد المسألة وتوضيح الشبهة وهذا في مجموعه ضمن اختصاصات القضاء، فليس لآحاد الناس اختبار الناس وامتحانهم وليس له الحكم على الأشخاص أو تحديد نوع الحد إنما عليه النصح والبيان وفق الضوابط الشرعية والرفع لأهل الاختصاص وللقضاء بذلك.
رابعا: ما دور جهة الفتوى في هذا الموضوع؟([5])
إن جهة الفتوى والعلماء المختصون يجب عليهم البيان للحكم، لا على التعيين للشخص، أي هذا القول كفر، ولا يلزم من كون القول كفرا كفر صاحبه، إلا بعد التحقق من الشروط وانتفاء الموانع التي هي مهمة القضاء، ويكون بيان دوائر الفتوى والعلماء ليس على التشخيص والأعيان، بمعنى أنهم يتناولون المقولات التي يقول بها الناس، ويبينون خطأها من صوابها، وليس لهم صلاحية الحكم على شخص بعينه، لافتقارهم بحسب مهمتهم، إلى قوة استجلاب المتهم ومساءلته عن قوله وقصده، ومناقشته بالحجة، والتحقق من حالته الصحية، والتأكد من تحقق شروط الحكم بالكفر وانتفاء موانعها، يعني أن على المجتمع واجب وهو محاصرة المقولات المُــتَعرِّضة لدين الأمة ورسولها، وعلى عموم الناس عدم الخوض بغير علم، بل لا بد أن يكون هناك تريُّث لما سيقوله العلماء وأهل الاختصاص في هذا الموضوع، ثم تَلقِّي هذا العلم وتداوله بعد صدوره من أهله، وهنا نقضي على الفوضى والتشويه في فكر المجتمع وتجاذبه من قبل من ليسوا من أهل العناية بهذا الأمر.
خامسا: خطورة التكفير.
إنّ التّسارعَ في التّكفير والوقوعَ فيه بدون القواعد التي قعّدها العلماء المحقِّقون، وبدون النّظر إلى الشّروط وانتفاءِ الموانع المرعيّة في النّصوص وفقَ فهمٍ لا تلابسه غمّة ولا تعتريه لُبسة، كلّ ذلك خطرٌ عظيم وشرّ مستبين، عانت الأمّة منه منذ عصرِ الصحابة رضي الله عنهم وحتى وقتنا الحاضر، فحينئذ حريٌّ بالمسلمين جميعًا أن يدرِكوا الضّررَ الذي يصيب الأمّةَ من التّسارع في تلك القضايا أو الكلام عليها من كلِّ أحدٍ، ممّا يفرِض على العلماء والدّعاةِ والمفتين والفقهاء السّعيَ في بيان الحقّ الذي يرضَى به ربّ العالمين ويتبيّن معه الحقّ من الباطل والصّوابُ من الخطأ، إذ تكمن خطورة تكفير المسلمين على النحو الآتي:
1-     جاءت النصوص الشرعية بالتحذير من التكفير، والوعيد الشديد لمن كفّر أحداً من المسلمين، لأن من كفّر مسلماً مستحلاً تكفيره دون موجب لذلك فقد كَفَر، فعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: {إِذَا كَفَّرَ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَقَدْ بَاءَ بِهَا أَحَدُهُمَا}([6])، وعَنْ أَبِي ذَرٍّرضي الله عنه، أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: {مَنْ دَعَا رَجُلا بِالْكُفْرِ، أَوْ قَالَ: عَدُوُّ اللهِ وَلَيْسَ كَذَلِكَ إِلا حَارَ عَلَيْهِ}([7]) أي رجعت عليه، وفي حديث آخر: {لاَ يَرْمِي رَجُلٌ رَجُلاً بِالفُسُوقِ، وَلاَ يَرْمِيهِ بِالكُفْرِ، إِلا ارْتَدَّتْ عَلَيْهِ، إِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُهُ كَذَلِكَ}([8])، يقول ابن حجر تعقيبا على الحديث الشريف: "وهذا يقتضي أن من قال لآخر أنت فاسق أو قال له أنت كافر، فإن كان ليس كما قال كان هو المستحق للوصف المذكور، وأنه إذا كان كما قال لم يرجع عليه شيء لكونه صدق فيما قال"([9]).
2-     ولخطورة التكفير وتعظيمه قال صلى الله عليه وسلم: {ولَعْنُ المُؤْمِنِ كَقَتْلِهِ، وَمَنْ رَمَى مُؤْمِنًا بِالكُفْرِ فَهُوَ كَقَتْلِهِ}([10])، فإذا كان تكفير المعيّن على سبيل الشتم كقتله، فكيف يكون تكفيره على سبيل الاعتقاد؟
3-     خطورة النتائج المترتبة على تكفير المسلم وهي على النحو الآتي:
          أ‌-         تجب محاكمته أمام القضاء الإسلامي لينفذ فيه حكم المرتد بعد استتابته وإزالة الشبهات عنه وإقامة الحجة عليه.
       ب‌-       وجوب التفريق بين المُكَفَّر (الذي أطلق عليه التكفير) وزوجته؛ لأنّ المسلمة لا يصح أن تكون زوجة لكافر.
       ت‌-       أنّ أولاده لا يجوز أن يبقوا تحت ولايته.
       ث‌-        لا يُغسل ولا يصلى عليه ولا يدفن في مقابر المسلمين ولا يورث.
        ج‌-       أنه موجب للعنة والطرد من رحمة الله وموجب للخلود الأبدي في النار.
4-     من أقوال العلماء في خطورة التكفير.
          أ‌-         قال القرطبيّ: "إن باب التكفير باب خطير، أقدم عليه كثير من الناس فسقطوا، وتوقف فيه الفحول فَسلِموا، ولا نعدل بالسلامة شيئًا"([11]).
       ب‌-        قال أبو حامدٍ الغزاليّ: "والذي ينبغي الاحترازُ منه التكفيرُ ما وُجد إليه سبيلاً، فإنّ استباحةَ الدماء والأموالِ من المصلّين إلى القبلة المصرّحين بقول: لا إله إلا الله محمّد رسول الله، كلّ ذلك خطأ، والخطأ في تركِ ألفِ كافر في الحياةِ أهونُ من الخطأ في دمٍ لمسلم"([12]).
       ت‌-       قال بان حجر الهيتمي: " ينبغي للمفتي أن يحتاط في التكفير ما أمكنه لعظيم خطره وغلبة عدم قصده سيما من العوام وما زال أئمتنا على ذلك قديما وحديثا"([13]).
       ث‌-       قال ابن تيمية: "لهذا يجب الاحتراز من تكفير المسلمين بالذنوب والخطايا فإنه أول بدعة ظهرت في الإسلام فكفَّر أهلها المسلمين واستحلوا دماءهم وأموالهم"([14]).
        ج‌-       قال ابن عابدين: "جاء في جامع الفصولين وفي الفتاوى الصغرى: الكفر شيء عظيم فلا أجعل المؤمن كافرا متى وجدت رواية أنه لا يكفر، وفي الخلاصة وغيرها: إذا كان في المسألة وجوه توجب التكفير ووجه واحد يمنعه فعلى المفتي أن يميل إلى الوجه الذي يمنع التكفير تحسينا للظن بالمسلم....... والذي تحرر أنه لا يفتى بكفر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان في كفره اختلاف ولو رواية ضعيفة، فعلى هذا فأكثر ألفاظ التكفير المذكورة لا يفتى بالتكفير فيها، ولقد ألزمت نفسي أن لا أفتي بشيء منها"([15]).









([1])الراغب الأصفهاني، المفردات،2/304.
([2]) مقال للدكتور وليد الشاويش. walidshawish.com/
([3]) سورة محمد: الآية 30.
([4]) مقال للدكتور وليد الشاويش. walidshawish.com/
([5]) مقال للدكتور وليد الشاويش. walidshawish.com/
([6]) رواه البخاري.
([7]) رواه مسلم.
([8]) رواه البخاري.
([9]) ابن حجر، الفتح الباري، 10/466.
([10]) رواه البخاري.
([11]) القرطبي، المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم، 9/81.
([12]) الغزالي، الاقتصاد في الاعتقاد، 81.
([13]) ابن حجر الهيتمي، تحفة المحتاج، 9/88.
([14]) ابن تيمية، مجموع الفتاوى، 13/31.
([15]) ابن عابدين، رد المحتار، 4/224.
التعليقات
0 التعليقات
جميع الحقوق محفوضة@2015 : د.حسن بن جازي الحويطات