(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

السبت، يناير 30، 2016

تخفيف الإمام على المأمومين في الصلاة


   الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على
المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
   فقد أورد الشارع الحكيم التخفيف في بعض أركان الصلاة؛ مراعاة لأحوال الناس، وتيسيرا لهم، فقد أمر صلى الله عليه وسلم الأئمة بالتخفيف في الصلاة وعدم تطويل قراءتها، وهو أمر استحباب، وذلك لاختلاف أحوال المأمومين؛ لأن فيهم الضعيف، والمريض، والعاجز، يقول الإمام أبو الفضل العراقي: "هذا الأمر بالتخفيف صرح أصحابنا وغيرهم بأنه على سبيل الاستحباب، وذهب جماعة إلى الوجوب تمسكا بظاهر الأمر"([1]).



   قال ابن عبد البر: "ينبغي لكل إمام أن يخفف لأمره صلى الله عليه وسلم وإن علم قوة من خلفه فإنه لا يدري ما يحدث عليهم من حادث وشغل وعارض وحاجة وحدث وغيره"، وقال أيضا: "التخفيف لكل إمام مجمع عليه مندوب عند العلماء إليه إلا أن ذلك إنما هو أقل الكمال، وأما الحذف والنقصان فلا؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قد نهى عن نقر الغراب...-ثم قال-: لا أعلم خلافا بين أهل العلم في استحباب التخفيف لكل من أمّ قوما على ما شرطنا من الإتمام، وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: لا تبغضوا الله إلى عباده يطول أحدكم في صلاته حتى يشق على من خلفه"([2]).
   لذا يستحب للإمام أن يخفف في القراءة والأذكار مع فعل الأبعاض والهيئات، ويأتي بأدنى الكمال، يقول الإمام النووي: "قال الشافعي والأصحاب: يستحب للإمام أن يخفف القراءة والأذكار بحيث لا يترك من الأبعاض والهيئات شيئا, ولا يقتصر على الأقل ولا يستوفي الأكمل المستحب للمنفرد من طوال المفصل  وأوساطه, وأذكار الركوع والسجود"([3])،  ولما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: {إِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِلنَّاسِ، فَلْيُخَفِّفْ، فَإِنَّ مِنْهُمُ الضَّعِيفَ وَالسَّقِيمَ وَالكَبِيرَ، وَإِذَا صَلَّى أَحَدُكُمْ لِنَفْسِهِ فَلْيُطَوِّلْ مَا شَاءَ}([4])، ولحديث معاذ -رضي الله عنه- أنه كان يطوّل بهم القراءة، فقال صلى الله عليه وسلم : {يَا مُعَاذُ، أَفَتَّانٌ أَنْتَ -أَوْ أَفَاتِنٌ- ثَلاَثَ مِرَارٍ: فَلَوْلاَ صَلَّيْتَ بِسَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ، وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى، فَإِنَّهُ يُصَلِّي وَرَاءَكَ الكَبِيرُ وَالضَّعِيفُ وَذُو الحَاجَةِ}([5])، لكنه إن صلى بقوم يعلم أنهم يؤثرون التطويل لم يكره، لأن المنع لأجلهم، وقد رضوا، ويكره للإمام الإسراع، بحيث يمنع المأموم من فعل ما يسن له، كتثليث التسبيح في الركوع والسجود، وإتمام ما يسن في التشهد الأخير.
   وروى ابن مسعود رضي الله عنه أن رجلا قال: {وَاللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأَتَأَخَّرُ عَنْ صَلاَةِ الغَدَاةِ مِنْ أَجْلِ فُلاَنٍ مِمَّا يُطِيلُ بِنَا، فَمَا رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي مَوْعِظَةٍ أَشَدَّ غَضَبًا مِنْهُ يَوْمَئِذٍ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ مِنْكُمْ مُنَفِّرِينَ، فَأَيُّكُمْ مَا صَلَّى بِالنَّاسِ فَلْيَتَجَوَّزْ، فَإِنَّ فِيهِمُ الضَّعِيفَ وَالكَبِيرَ وَذَا الحَاجَةِ}([6])، وسببه أن أُبَي بن كعب، كان يصلي بأهل قباء، فاستفتح سورة طويلة، فدخل معه غلام من الأنصار في الصلاة، فلما سمعه استفتحها، انفلت من صلاته، فغضب أُبَي، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم يشكو الغلام، وأتى الغلام يشكو أُبَيا فغضب النبي صلى الله عليه وسلم حتى عرف الغضب في وجهه، ثم قال: إن منكم منفرين ... الحديث، يقول الإمام النووي تعقيبا على الحديث الشريف: "فيه جواز التأخر عن صلاة الجماعة إذا علم من عادة الإمام التطويل الكثير"([7])، ويقول الإمام العيني: "فيه التعزير على إطالة الصلاة إذا لم يرض المأموم به وجواز التعزير بالكلام"([8]).
   والمراد بالتخفيف أن يقتصر الإمام على أدنى الكمال، فيأتي بالواجبات، والسنن، ولا يقتصر على الأقل ولا يستوفي الأكمل، وإن كان المأمومون محصورين ورضوا بتطويله الصلاة جاز، وعليه يحمل تطويل النبي صلى الله عليه وسلم في بعض ما أثر عنه، يقول الإمام أبو الفضل العراقي: "هذا الحكم وهو الأمر بالتخفيف مذكور مع علته، وهو كون المأمومين فيهم السقيم والضعيف والكبير، فإن انتفت هذه العلة، فلم يكن في المأمومين أحد من هؤلاء وكانوا محصورين ورضوا بالتطويل طوّل لانتفاء العلة، وبذلك صرح أصحابنا وغيرهم"([9]).
   ويشرع للإمام أيضا التخفيف لنازلة تستدعي ذلك؛ لما في الحديث أن -النبي صلى الله عليه وسلم- قال: {إِنِّي لَأَقُومُ فِي الصَّلاَةِ أُرِيدُ أَنْ أُطَوِّلَ فِيهَا، فَأَسْمَعُ بُكَاءَ الصَّبِيِّ، فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي كَرَاهِيَةَ أَنْ أَشُقَّ عَلَى أُمِّهِ}([10])، يقول الإمام النووي: "قال العلماء: كانت صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم تختلف في الإطالة والتخفيف باختلاف الأحوال، فإذا كان المأمومون يؤثرون التطويل، ولا شغل هناك له ولا لهم طوّل، وإذا لم يكن كذلك خفّف، وقد يريد الإطالة ثم يعرض ما يقتضي التخفيف كبكاء الصبي ونحوه، وينضم إلى هذا أنه قد يدخل في الصلاة في أثناء الوقت فيخفف، وقيل: إنما طوّل في بعض الأوقات وهو الأقل، وخفّف في معظمها فالإطالة لبيان جوازها والتخفيف لأنه الأفضل"([11]).
    وفي قوله صلى الله عليه وسلم " فَأَتَجَوَّزُ فِي صَلاَتِي ُ" يقول الإمام الشوكاني: "فيه دليل على مشروعية الرفق بالمأمومين وسائر الأتباع ومراعاة مصالحهم، ودفع ما يشق عليهم وإن كانت المشقة يسيرة وإيثار تخفيف الصلاة للأمر يحدث"... ثم يضيف قائلا: "وأحاديث الباب تدل على مشروعية التخفيف للأئمة وترك التطويل، للعلل المذكورة من الضعف والسقم والكبر والحاجة واشتغال خاطر أم الصبي ببكائه، ويلحق بها ما كان فيه معناها"([12]).






([1])  أبو الفضل العراقي، طرح التثريب في شرح التقريب، (2/348).
([2]) المبار كفوري،  تحفة الأحوذي، (2/ 32،33).
([3]) النووي، المجموع، (4/125).
([4]) رواه البخاري: كتاب الأذان، باب إذا صلى لنفسه فليطوّل ما شاء، حديث رقم (703).
([5]) رواه البخاري: كتاب الأذان، باب من شكا إمامه إذا طوّل، حديث رقم (705).
([6]) رواه البخاري: كتاب الأذان، باب من شكا إمامه إذا طوّل، حديث رقم (704).
([7]) النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، (4/184).
([8]) العيني، عمدة القاري شرح صحيح البخاري، (2/107).
([9]) أبو الفضل العراقي، طرح التثريب في شرح التقريب، (2/350).
([10]) رواه البخاري: كتاب الأذان، باب من أخفّ الصلاة عند بكاء الصبي، حديث رقم (707).
([11]) النووي، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، (2/201).
([12]) الشوكاني، نيل الأوطار، (3/164).
التعليقات
0 التعليقات
جميع الحقوق محفوضة@2015 : د.حسن بن جازي الحويطات