(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

السبت، يناير 30، 2016

أحكام الإسلام والقانون الدولي الإنساني


   كان الإسلام سباقاً في مجال حقوق الإنسان سواء في وقت السلم أو في وقت الحرب منذ ما يزيد على ألف وأربعمائة عام، فمن أهم أهداف الشريعة الإسلامية تحرير الإنسان ورفع شأنه وتوفير أسباب العزة والكرامة والشرف له إمتداداً لتكريم الله سبحانه وتعالى له الذي أعلن تكريمه وتفضيله لجميع أفراد النوع الإنساني، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا 


تَفْضِيلًا)[1]، كما سبق فقهاء الإسلام الى وضع قواعد الحرب في الإسلام كاملة قبل أن ينص القانون الإنساني الدولي على الكثير من بنودها، فالفقيه محمد أبي الحسن الشيباني أول من وضع قواعد ومبادئ وأحكام هذا العلم في كتابيه السير الكبير وكتابه السير الصغير[2]، ولتوضيح هذا المبحث سأتناوله ضمن المطالب الآتية:
المطلب الأول: تعريف القانون الدولي الإنساني.
   اختلف القانونيون في تحديد المقصود بمصطلح) القانون الدولي الإنساني)؛ فلا يوجد له حتى الآن تعريفٌ واحدٌ مجمعٌ عليه، وقد استخلص الدكتور سعيد الخولي بعد أن عرض عدة تعريفات إلى أن القانون الدولي الإنساني: هو عبارة عن المواثيق، والأعراف الدولية، التي تطبق حال النزاعات المسلحة على اختلاف أقسامها، وتهدف إلى تقييد أطراف النزاع وتخفيف آثاره عنهم؛ حفاظا على كرامة الإنسان وحقوقه الأساسية[3].
   "أما مصطلح (القانون الإنساني) في الفقه الإسلامي فيعد من المصطلحات المعاصرة، ولذلك لا نجد له تعريفاً عند الفقهاء الأقدمين، بل إنهم لم يفردوا هذا الموضوع بالكتابة، ولم يهتموا بجمع أحكامه، وإن كانوا قد تحدثوا عنه ضمن حديثهم في باب الجهاد والسير، وهو ما يعرف بالقانون الدولي العام بالمصطلح الحديث.
   ويرجع السبب في عدم إفراد الفقهاء الأقدمين هذا الموضوع بالكتابة إلى واقع الحياة التي عاشوها، والثقافة التي حكمت سلوكهم، والحروب والمعارك التي خاضها المسلمون قديماً، حيث لم يكونوا بحاجة إلى من يذكرهم بالمبادئ الإنسانية للحروب، وبعبارة أخرى: إن سبب الاهتمام المعاصر بالقانون الإنساني، هو كثرة الحروب المعاصرة، ودمويتها، وبشاعتها التي لا تطاق، كما أن السبب المباشر لانطلاق هذا القانون وظهوره هو حرب سولفرينو بكل ما حدث فيها من وحشية لا تتصور، فهل كانت الحروب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، والصحابة الكرام، والتابعين الأعلام بهذه الصورة من الوحشية؟ الإجابة قطعاً ستكون بالنفي، لأن المطالع لكتب السير، والغزوات يرى مدى إنسانية الحرب وأخلاقها في الإسلام، سواء في أهدافها، أم في كيفية إعلانها، أم في سير العمليات العسكرية، ووسائل القتال، أم في توابعها من حيث معاملة الأسرى، والمدنيين.
   وبالرجوع للأدلة الشرعية التي تضبط جهاد المسلمين، كتابات الفقهاء في هذا المجال يمكن تعريف القانون الدولي الإنساني في الإسلام بأنه: عبارة عن القواعد والأحكام الشرعية العملية التي تطبق حال النزاعات المسلحة الدولية، والتي تهدف إلى حماية الإنسان وصيانة كرامته، وحقوقه الأساسية حال النزاع"[4].
المطلب الثانى: الاختلاف بين القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان.
   يختلف القانون الدولي الإنساني عن القانون الدولي لحقوق الإنسان من وجوه عديدة، أهمها أربعةٌ[5]:
1-  يتعلق القانون الدولي الإنساني بحقوق الإنسان حال النزاعات المسـلحة، وبالأدق يهدف إلى تخفيف آثار تلك النزاعات على الإنسان، أما القانون الدولي لحقوق الإنسان فيتحدث عن حقوق معينة، تثبت للفرد باعتباره إنساناً، أو عضواً في جماعة، بِغَضِّ النظر عن الحالة التي يعيشها، حرباً كانت أم سلماً.
2-  إنَّ القانون الدولي لحقوق الإنسان ينطوي على قدرٍ أكبرَ من المبادئ العامة والقواعد الكلية التي تنظمه، بينما يتسم القانون الدولي الإنساني بطابعٍ استثنائيٍّ خاصٍ، إذْ إنَّ قواعده لا تتعلق إلاّ بالنزاعات المسلحة، ولا تدخل حيز التنفيذ إلاّ في اللحظة التي تندلع فيها الحرب.
3-  كما أنهما يختلفان من الناحية القانونية بصورة جوهرية، فإذا كان القانون الإنساني لا يسري إلا في حالة النزاع المسلح، فإن قانون حقوق الإنسان يطبق أساساً زمن السلم؛ أي الأحوال العادية.
4-  إن القانون الدولي لحقوق الإنسان ينظم العلاقات بين الدول ورعاياها، أي: يحدد حق الفرد على دولته، بينما يهتم القانون الإنساني بالعلاقات بين الدولة والرعايا الأعداء.
المطلب الثالث: مصادر القانون الدولي الإنساني وأهدافه[6].
تنقسم مصادر القانون الدولي الإنساني إلى  قسمين:
القسم الأول: القواعد الموثقة، أي الاتفاقيات المكتوبة في هذا الشأن، والتي تجمع بين اتفاقيات (لاهاي)، واتفاقيات (جنيف)، والبروتوكولين الملحقين بها.
القسم الثاني: القواعد العرفية الدولية النابعة من مبادئ الإنسـانية والضمير العام، وذلك طبقاً لنص المادة الثانية من البروتوكول الإضافي الأول لعام 1977م.
ويهدف القانون الدولي الإنساني لتحقيق ما يلي:
أولاً: الحد من الأضرار الناجمة عن النزاعات المسلحة، سواء تلك التي تتعلق بالأفراد، أو الممتلكات والأموال، أو البيئة.
ثانياً: توفير الحد الأدنى من الحماية الإنسانية أثناء النزاعات المسلحة والحروب؛ من حيث الحياة، والعلاج، والطعام، والشراب، وغيره.
ثالثاً: تقييد حق أطراف النزاع في اختيار أساليب القتال، ووسائله في ميدان المعركة.
   أما مصادر القانون الدولي الإنساني في الإسلام فلا تختلف عن مصادر بقيَة أحكام الفقه الإسلامي، وعليه؛ فإنَّ أحكام هذا القانون تؤخذ من القرآن الكريم، والسنة النبوية المطهرة، والتطبيق السليم في حروب الصحابة، وإجماع الأمة، والاجتهاد السليم المستند إلى مصلحةٍ معتبرةٍ، أو دليلٍ شرعيٍّ.
ويهدف القانون الدولي الإنساني في الإسلام إلى تحقيق المقاصد الثلاثة التالية: ـ
1.    الحد من الأضرار الناجمة عن النزاعات المسلحة.
2.    توفير الحد الأدنى من الحماية الإنسانية لضحايا هذه النزاعات على اختلاف فئاتهم.
3.    تقييد أطراف النزاع في اختيار وسائل القتال، وأساليبه في ساحة المعركة.
المطلب الرابع: مبادئ الإسلام في التعامل مع الإنسان في السلم والحرب، وفيه مسألتان:
المسألة الأولى: مبادئ الإسلام في التعامل مع الإنسان في السلم.
1-   مبدأ العدل والإحسان.
   العدل هو الصفة الجامعة للرسالة السماوية التي جاء الرسل عليهم الصلاة والسلام لتحقيقها، وإرشاد الناس إليها وحملهم عليها، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ)[7]، وقوله عز وجل: (إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ)[8]، يقول الإمام القرطبي: "العدل هو كل مفروض، من عقائد وشرائع في أداء الأمانات، وترك الظلم والإنصاف، وإعطاء الحق، والإحسان هو فعل كل مندوب إليه"[9]، فالعدل أمر فرض الله سبحانه على المسلمين السعي لإقامته في الأرض، وليكون من أبرز خصائصهم بين الأمم؛ لأن دينهم دين العدل، وقد أمرنا الله تبارك وتعالى بالعدل مع الآخر حتى ولو كان كافرا قال تعالى: (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ)[10]، قال الإمام القرطبي في هذه الآية: "دلت الآية على أن كفر الكافر لا يمنع من العدل عليه، وأن يقتصر بهم على المستحق من القتال والاسترقاق، وأن المثلة بهم غير جائزة وإن قتلوا نساءنا وأطفالنا وغمونا بذلك، فليس لنا أن نقتلهم بمثلة قصدا لإيصال الغم والحزن إليهم"[11].
2-   مبدأ المحبة والكرامة والمساواة الإنسانية.
   إن الأصل في العلاقات بين الناس في الشريعة الإسلامية أنها علاقات أُخوَّة ومحبة، وتعاون وتنافس في خدمة المجموع؛ وذلك بما يكفل تحقيق سعادتهم على الأرض، وسعادتهم عندما ينتقلون إلى الدار الآخرة، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)[12]، يقول ابن عاشور في تفسيره: " والخبر في قوله: (إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى) مستعمل كناية عن المساواة في أصل النوع الإنساني"[13]، ومن مبادئ الإسلام العامة مبدأ الكرامة الإنسانية بين جنس البشر، والمساواة بينهم جميعا في القيم الإنسانية المشتركة، وأن البشر ابتداء هم أمة واحدة ينتمون إلى أب واحد هو آدم عليه السلام، وأنه لا تفاضل بينهم في العرق أو اللون أو الجنس أو الجنسية أو اللغة أو الدين، بل كلهم لآدم وآدم من تراب، قال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)[14]، وفي قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً)[15]، يقول الزحيلي: "وإنشاء جميع البشر من نفس واحدة يدل على قدرة الله تعالى وعلمه وحكمته ووحدانيته، كما يوجب شكر النعمة، ويرشد إلى وحدة الأصل والنوع الإنساني، مما يقتضي وجوب التعارف والتعاون بين الناس لأنهم من أصل واحد وأب واحد، فهم إخوة، وما على الإخوة إلا التآلف، لا التناحر والتقاتل"[16].
3-   مبدأ الوفاء بالعهد وحرمة الخيانة والغدر للمعاهد.
   أوجب الإسلام الوفاء بالعهد، والتزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم في جميع عهوده، تحقيقا لقوله تعالى: (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ)[17]، ونفى الدين عمن لا عهد له؛ فعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ: مَا خَطَبَنَا نَبِيُّ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَّا قَالَ: " لَا إِيمَانَ لِمَنْ لَا أَمَانَةَ لَهُ، وَلَا دِينَ لِمَنْ لَا عَهْدَ لَهُ"[18]، ومن صور التزامه عليه الصلاة والسلام العهد: وفاؤه بالوثيقة التي عقدها لليهود عندما هاجر إلى المدينة، وصلح الحديبية، وغيرهما، ونقض العهد محرم قطعا ولا يصح من مؤمن أبدا للآية السابقة ولقوله صلى الله عليه وسلم: "أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ، وَإِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا عَاهَدَ غَدَرَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ"[19].
   وحرم الإسلام ظلم المُعاهَدين، بل أمر الوفاء بالعهد ومدته إليهم كما في قوله تعالى: (فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ)[20]، ووصف الذين ينقصون عهدهم بالخسران في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)[21]، ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ظلم المعاهد بقوله: "أَلَا مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا، أَوِ انْتَقَصَهُ، أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، أَوْ أَخَذَ مِنْهُ شَيْئًا بِغَيْرِ طِيبِ نَفْسٍ، فَأَنَا حَجِيجُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ"[22]، كما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقض العهد حتى ينقضي أمده، أو ينبذ العهد إلى المعاهدين جهرا لا سرا حتى لا يغدر بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ كَانَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ قَوْمٍ عَهْدٌ فَلَا يَشُدُّ عُقْدَةً وَلَا يَحُلُّهَا حَتَّى يَنْقَضِيَ أَمَدُهَا أَوْ يَنْبِذَ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ"[23]، ونقض العهد يعد من الغد، وقد شهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالغادر في قوله: "كُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ، قَالَ أَحَدُهُمَا: يُنْصَبُ، وَقَالَ الآخَرُ: يُرَى يَوْمَ القِيَامَةِ، يُعْرَفُ بِهِ"[24].
المسألة الثانية: مبادئ الإسلام في التعامل مع الإنسان في الحرب.
1-   مبدأ التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين.
   لقد كانت الشريعة الإسلامية سباقة في التمييز بين المقاتلين وغير المقاتلين في حالة الحروب مع أعدائها، إذ حرّم الإسلام قتل المدنيين العزل من السلاح وخصوصا الأطفال والنساء والشيوخ والرهبان وأشباههم، قال الله عز وجل: (قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ)[25]، قال القرطبي في تفسير هذه الآية:" أي قاتلوا الذين هم بحالة من يقاتلونكم، ولا تعتدوا في قتل النساء والصبيان، ومن أشبههم، كالرهبان والزمنى والشيوخ والأجراء فلا يقتلون"[26]، وعن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: {اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا}[27]، قال الإمام النووي: "وفي هذه الكلمات من الحديث فوائد مجمع عليها وهي: تحريم الغدر، وتحريم الغلول، وتحريم قتل الصبيان إذا لم يقاتلوا، وكراهة المُثلة"[28]، وقد وصى أبو بكر رضي الله عنه جيش أسامة فقال: "يا أيها الناس قفوا أوصيكم بعشر فاحفظوها عني:لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيرا أو شيخا كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نخلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له"[29].
2-   مبدأ تحريم المُثلة في الإسلام.
   يقول ابن الأثير: "مَثَلْتُ بِالْحَيَوَانِ أَمْثُلُ بِهِ مَثْلًا، إِذَا قَطَعْتَ أَطْرَافَهُ وشَوّهْتَ بِهِ، ومَثَلْتُ بالقَتيل، إِذَا جَدَعْت أَنْفَهُ، أَوْ أذُنَه، أَوْ مَذاكِيرَه، أَوْ شَيْئًا مِنْ أطرافِه، وَالِاسْمُ: المُثْلَة، فأمَّا مَثَّلَ، بِالتَّشْدِيدِ، فَهُوَ للمبالَغة، "وقال ابن الأنباري: المُثلة العقوبة المبينة في المعاقب شيئا، وهو تغيير تبقى الصورة معه قبيحة، وهو من قولهم، مثل فلان بفلان إذا قبح صورته إما بقطع أذنه أو أنفه أو سمل عينيه أو بقر بطنه"[30]، وقد ذهب الفقهاء في الجملة إلى أن المثلة ابتداء بالحي حرام، وبالإنسان ميتا كذلك[31]، واستدلوا بما روي عن سليمان بن بريدة، عن أبيه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمّر أميرا على جيش، أو سرية، أوصاه في خاصته بتقوى الله، ومن معه من المسلمين خيرا، ثم قال: {اغْزُوا بِاسْمِ اللهِ فِي سَبِيلِ اللهِ، قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا وَلَا تَغُلُّوا، وَلَا تَغْدِرُوا، وَلَا تَمْثُلُوا، وَلَا تَقْتُلُوا وَلِيدًا}[32]، يقول الإمام الصنعاني: "في الحديث مسائل (الأولى) دل على أنه إذا بعث الأمير من يغزو أوصاه بتقوى الله وبمن يصحبه من المجاهدين خيرا ثم يخبره بتحريم: الغلول من الغنيمة، وتحريم الغدر، وتحريم المثلة، وتحريم قتل صبيان المشركين، وهذه محرمات بالإجماع"[33]، واستدلوا أيضا بما روى عمران بن حصين رضي الله عنه، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم: {يَحُثُّنَا عَلَى الصَّدَقَةِ وَيَنْهَانَا عَنِ الْمُثْلَةِ}[34]، وعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال: {اخْرُجُوا بِسْمِ اللهِ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، لَا تَغْدِرُوا، وَلا تَغُلُّوا، وَلا تُمَثِّلُوا، وَلا تَقْتُلُوا الْوِلْدَانَ، وَلا أَصْحَابَ الصَّوَامِعِ}[35].
   ومن مبادئ الإسلام العظيمة عدم استخدام الوسائل البشعة في القتال، فإذا ورد في حق الحيوان قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: {إِنَّ اللهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ، فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ، وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذَّبْحَ، وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ، فَلْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ}[36]، فمن باب أولى أن يُحترم الإنسان حتى في وسيلة قتله، يقول الإمام المباركفوري في شرحه للحديث: " (فَإِذَا قَتَلْتُمْ فَأَحْسِنُوا الْقِتْلَةَ) أي الحالة التي عليها القاتل في قتله كالجلسة والركبة والمراد بها المستحقة قصاصا أو حدا والإحسان فيها الاختيار أسهل الطرق وأقلها ألما"[37].
3-   مبدأ معاملة أسير الحرب في الإسلام.
   مبادئ الإسلام تدعو إلى الرفق بالأسرى، وتوفير الطعام والشراب والكساء والدواء لهم، واحترام آدميتهم، لقوله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}[38]، وقال صلى الله عليه وسلم: {فُكُّوا العَانِيَ يَعْنِي: الأَسِيرَ، وَأَطْعِمُوا الجَائِعَ، وَعُودُوا المَرِيضَ}[39]، وجاء في كتاب السير الكبير: "جَلَسَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِبَنِي قُرَيْظَةَ حَتَّى قُتِلَ مَنْ قُتِلَ مِنْهُمْ فِي يَوْمٍ صَائِفٍ... فَلَمَّا انْتَصَفَ النَّهَارُ قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَجْمَعُوا عَلَيْهِمْ حَرَّ الشَّمْسِ وَحَرَّ السِّلَاحِ، قَيِّلُوهُمْ وَاسْقُوهُمْ ..."[40].
المطلب الخامس: آداب الإسلام في الحرب.
   ذكر فقهاء الإسلام في بطون كتبهم كثير من آداب الإسلام التي يجب أن يتحلى بها الجندي المسلم في الحرب، واقتصر في ذكر بعض هذه الآداب ما ذكره سماحة الدكتور نوح القضاة في محاضرة له في كلية الدفاع الوطني في القوات المسلحة الأردنية على النحو الآتي:
   "القاعدة في التشريع الإسلامي أن (الضرورات تبيح المحظورات) و(الضرورات تُقدَّر بقدرها)، وإذا كانت الحرب ضرورة لا بد منها فيجب مراعاة ما يلي:
1-  قَبول السلام الذي يؤمِّن الحقوق الشرعية، قال الله تعالى: (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[41]، أما مع الظلم فلا سلام، قال الله تعالى: (وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ)[42].
2-   أن تكون الخيار الأخير وقبلها الدعوة والمهادنة.
3-  مهما يكن من أمر فالحروب بين البشر واقعٌ لا يُنكَر، وضرورة في بعض الأحيان لا بد منها، قال الله تعالى: (أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ)[43]، فالمسلمون كانوا قد مُنعوا من القتال، ثم صار لا بد منه بعد الهجرة إلى المدينة المنورة وقيام الدولة الإسلامية.
4-  يجب بناء القوة الرادعة للعدو عن الإقدام على الحرب، قال الله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ)[44]، فقوله تعالى:(من قوة) يشمل قوة الإيمان، وقوة الاتحاد والكلمة، وقوة السلاح، وقوة العلم، وكل قوة، وإذا حصلت القوة لم يُفكِّر العدو في القتال، فيسلم الطرفان.
5-  عدم معاقبة أحد بذنب غيره، قال الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى)[45]، ومن ذلك عفو النبي صلى الله عليه وسلم عمن بقرت بطن حمزة رضي الله عنه، وإكرام صلاح الدين للصليبيين عندما فتح بيت المقدس مع ما فعله سلفهم عند فتح بيت المقدس قبل تسعين سنة.
6-   لا يُقاتَل إلا من قاتل من الأعداء، قال الله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِين)[46]، وهذا نص عام يشمل الدولة والأشخاص.
7-  عدم قتال من لا يُقاتِل كالنساء والصبيان والعجزة؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: {وُجِدَت امْرأةٌ مَقْتُولَةً في بَعْضِ مَغازِي رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَنَهى رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ}[47]، وقد أوصى أبو بكر رضي الله عنه بعض جيوشه وهو يودعهم فقال:  (لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً، ولا شيخاً كبيراً، ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً، ولا تحرقوا ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة، ولا بقرة، ولا بعيراً إلا مأكله، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع، فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له...).
8-  لا يجوز إشراك أطفال المسلمين في القتال، ولا إشراك النساء، إلا في حالات ضيقة، كما لا يُطلب الجهاد من أصحاب العاهات البدنية كالأعرج والمريض، وفي هذا حماية لهم من نتائج الحرب.
9-  كل مسلم له الحق أن يعطي الأمان لأي مقاتل من الأعداء إذا ترك القتال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {ذِمَّةُ المُسْلِمِينَ وَاحِدَةٌ، يَسْعَى بِهَا أَدْنَاهُمْ، فَمَنْ أَخْفَرَ مُسْلِماً فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللَّهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً}[48].
10-    عدم إتلاف الممتلكات إلا لحاجة، قال تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ)[49]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: {مَنْ قَتَلَ عصفوراً فما فوقها بغير حقها؛ سأله الله عز وجل عنها يوم القيامة}[50].
11-    عدم جواز الغدر، قال تعالى: (وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ)[51]، وعدم الغدر يحمي الأرواح".




  





[1] سورة الاسراء: الآية 70.
[2]  أصول العلاقات الدولية في فقه الإمام محمد بن حسن الشيباني، عثمان ضميرية، ص 250. العلاقات الدولية في الإسلام، عارف أبو عيد، ص10.
[3] المدخل لدراسة القانون الدولي الإنساني، سعيد الخولي، ص108. احكام القانون الدولي الإنساني في الإسلام، محمد الفرا، ص6.
[4] احكام القانون الدولي الإنساني في الإسلام، محمد الفرا، ص4748.
[5] احكام القانون الدولي الإنساني في الإسلام، محمد الفرا، ص7.
[6] احكام القانون الدولي الإنساني في الإسلام، محمد الفرا، ص89، ص4950.
[7] سورة الحديد: من الآية 25.
[8] سورة النحل: من الآية 90.
[9] تفسير القرطبي، ج10 ص166.
[10] سورة المائدة: من الآية 8.
[11] تفسير القرطبي، ج6 ص110.
[12] سورة الحجرات: الآية 13.
[13] التحرير والتنوير لابن عاشور، ج26 ص261.
[14] سورة الإسراء: من الآية 70.
[15] سورة النساء: من الآية 1.
[16] التفسير المنير للزحيلي، ج7 ص308.
[17] سورة النحل: من الآية 91.
[18] رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد حسن.
[19] رواه البخاري.
[20] سورة التوبة: من الآية 4.
[21] سورة الرعد: الآية 25.
[22] رواه أبو داود بإسناد صحيح.
[23] رواه أبو داود بإسناد صحيح.
[24] رواه البخاري.
[25] سورة البقرة: الآية 190.
[26] تفسير القرطبي، ج2 ص348.
[27] رواه مسلم.
[28] شرح النووي على مسلم، ج12ص37.
[29] تاريخ الطبري، ج2 ص246.
[30] النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، ج4  ص294. التفسير الكبير للرازي، ج19 ص1112.
[31] المبسوط للسرخسي، ج10 ص5.  شرح مختصر خليل للخرشي، ج3 ص115.
[32] رواه مسلم.
[33] سبل السلام للصنعاني، ج2 ص467.
[34] رواه أبو داود بإسناد صحيح.
[35] رواه الإمام أحمد في مسنده بإسناد ضعيف.
[36] رواه مسلم.
[37] تحفة الأحوذي للمباركفوري، ج4 ص553.
[38] سورة الإنسان: الآية 8.
[39] رواه البخاري.
[40] شرح السير الكبير لمحمد بن حسن الشيباني، ج1 ص590.
[41] سورة الأنفال: الآية 61.
[42] سورة البقرة: الآية 191.
[43] سورة الحج: الآية 3940.
[44] سورة الأنفال: الآية 60.
[45] سورة الأنعام: الآية 164.
[46] سورة البقرة: الآية 190.
[47] رواه البخاري ومسلم.
[48] رواه البخاري.
[49] سورة البقرة: الآية 205.
[50] رواه النسائي.
[51] سورة الأنفال: الآية 58.
التعليقات
0 التعليقات
جميع الحقوق محفوضة@2015 : د.حسن بن جازي الحويطات