(وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)

السبت، يناير 30، 2016

التعزية وطعام العزاء

إن الواجب على كل مسلم أن يعلم علم اليقين أن ما أصابه من شر إنما هو بقضاء الله تعالى وقدره، لذا ينبغي على المسلم الذي أصيب بما يكره أن يبادر للرضا بما كتبه الله تعالى عليه؛ إذ كلٌّ من عند الله كما قال سبحانه: (ما أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ)([1])، كما عليه أن 



يصبر ويحتسب، ثم يستعين بالله تعالى ويتعزى بعزائه ويمتثل أمره في الاستعانة بالصبر والصلاة؛ لينال ما وعد الله به الصابرين في قوله تعالى: (لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ * أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ)([2])، ولعل من أعظم المصائب في هذه الدنيا أن يُفجَع الإنسان بموت أخ له أو عزيز عليه، لذا كان من حقّ المسلم على إخوانه أن يبادروا إلى تعزيته وتصبيره على مصابه بذكر ما يسليه ويخفف حزنه ويهون مصيبته.
غير أن هناك بعض الأحكام الخاصة بالتعزية في الإسلام، اختلف فيها العلماء فضلاً عن عوام الناس، كحكم التعزية ومشروعيتها ومدة العزاء وحكم طعام العزاء، فارتأيت في هذه الصفحات القلائل أن أتحدث عنها مبيناً أقوال العلماء فيها.
·       مشروعية التعزية:
لا خلاف بين الفقهاء في استحباب التعزية لمن أصابته مصيبة، والأصل في مشروعيتها ما رواه أنس بن مالك –رضي الله عنه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {مَنْ عَزَّى أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فِي مُصِيبَةٍ، كَسَاهُ اللهُ حُلَّةً خَضْرَاءَ يُحْبَرُ بِهَا، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، مَا يُحْبَرُ بِهَا؟ قَالَ: يُغْبَطُ بِهَا}([3])، وقوله صلى الله عليه وسلم: {مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلَّا كَسَاهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}([4])، وعن قرة بن إياس –رضي الله عنه-: {أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَأْتِي النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَمَعَهُ ابْنٌ لَهُ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم: أَتُحِبُّهُ؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَحَبَّكَ اللهُ كَمَا أُحِبُّهُ. فَفَقَدَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَالَ: مَا فَعَلَ ابْنُ فُلَانٍ؟ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، مَاتَ. فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِأَبِيهِ: أَمَا تُحِبُّ أَنْ لَا تَأْتِيَ بَابًا مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ إِلَّا وَجَدْتَهُ يَنْتَظِرُكَ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَهُ خَاصَّةً أَمْ لِكُلِّنَا؟ قَالَ: بَلْ لِكُلِّكُمْ}([5]).
·       مدة التعزية:
ذهب جمهور الفقهاء: على أن مدة التعزية ثلاثة أيام، واستدلوا لذلك بإذن الشارع في الإحداد في الثلاث فقط، بقوله صلى الله عليه وسلم: {لاَ يَحِل لاِمْرَأَةٍ تُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآْخِرِ أَنْ تَحُدَّ عَلَى مَيِّتٍ فَوْقَ ثَلاَثٍ، إِلاَّ عَلَى زَوْجٍ: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا}([6])، وتكره بعدها؛ لأن المقصود منها سكون قلب المصاب، والغالب سكونه بعد الثلاثة، فلا يجدد له الحزن بالتعزية، إلا إذا كان أحدهما (الْمُعَزَّى أَوِ الْمُعَزِّي) غائبا، فلم يحضر إلا بعد الثلاثة، فإنه يعزيه بعد الثلاثة.
·       صنع الطعام من الجيران والأصدقاء لأهل الميت:
 ذهب الحنفية والمالكية والشافعية إلى أنه يستحب لجيران الميت والأباعد من قرابته تهيئة طعام لأهل الميت يشبعهم يومهم وليلتهم ؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: {اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا، فَقَدْ أَتَاهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ، أَوْ أَمْرٌ يَشْغَلُهُمْ}([7])، ويلح عليهم في الأكل؛ لأن الحزن يمنعهم فيضعفهم، وبه قالت المالكية، إلا إذا اجتمعوا على محرم من ندب ولطم ونياحة، فلا يندب تهيئة الطعام لهم، ويسن ذلك عند الحنابلة ثلاثا لأهل الميت لا لمن يجتمع عندهم، فإنه يكره لهم، إلا أن يكونوا ضيوفا([8]).
·       صنع الطعام من قبل أهل الميت للناس:
 اتفق الفقهاء على أنه تكره الضيافة من أهل الميت لأنها شرعت في السرور لا في الشرور ، وهي بدعة مستقبحة، وقال صلى الله عليه وسلم: {لَا عَقْرَ فِي الْإِسْلَامِ}([9])، وهو الذي كان يعقر عند القبر من إبل، أو بقر، أو شاء.
وصرح الحنابلة بأنه يكره الأكل من طعام أهل الميت، فإن كان من تركة وفي مستحقيها محجور عليه حرم فعله والأكل منه، وكره الذبح والأضحية عند القبر، والأكل منه، وصرح الحنابلة والشافعية، بأنه يحرم تهيئة لطعام لنائحات؛ لأنه إعانة على المعصية، وصرح الحنفية بأنه يكره اتخاذ الطعام في أيام متعارف عليها كاليوم الأول، والثالث، وبعد الأسبوع، ونقل الطعام إلى القبر في المواسم، واتخاذ الدعوة لقراءة القرآن، وجمع الصلحاء والقراء للختم، أو لقراءة سورتي الأنعام والإخلاص، على أنه إذا اتخذ الطعام للفقراء كان حسنا، وقال في المعراج: هذه الأفعال كلها للسمعة والرياء، فيحترز عنها؛ لأنهم لا يريدون به وجه الله تعالى، وفي غاية المنتهى للحنابلة: ومن المنكر وضع طعام أو شراب على القبر ليأخذه الناس([10]).
 ويُكْره أَن يصنع أَهل الميِّت طعاما للنَّاس، لأن فيه زيادة على مصيبتهم، وشغلا لهم إلى شغلهم، وتشبها بصنع أهل الجاهلية، لِخَبَرِ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْبَجَلِيِّ –رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قال: "كُنَّا نَعُدُّ الاِجْتِمَاعَ إِلَى أَهْل الْمَيِّتِ، وَصَنِيعَةَ الطَّعَامِ بَعْدَ دَفْنِهِ مِنَ النِّيَاحَةِ"([11]).
 يقول الإمام النووي في كتابه المجموع: "قَالَ صَاحِبُ الشَّامِلِ وَغَيْرُهُ: وَأَمَّا إصْلاحُ أَهْلِ الْمَيِّتِ طَعَامًا وَجَمْعُ النَّاسِ عَلَيْهِ فَلَمْ يُنْقَلْ فِيهِ شَيْءٌ, وَهُوَ بِدْعَةٌ غَيْرُ مُسْتَحَبَّةٍ"([12]).
والحمد لله رب العالمين






([1]) سورة الحديد: الآية 22.
([2]) سورةالبقرة: الآية 155، 156، 157.
([3]) شعب الإيمان للبيهقي، حديث (8843).
([4]) سنن ابن ماجه، كتاب: الجنائز، باب: ثواب من عزى مصاباً، حديث (1601).
([5]) مسند الإمام أحمد، حديث (15595).
([6]) متفق عليه.
([7]) سنن ابن ماجه، كتاب: الجنائز، باب: الطعام يُبعَث إلى أهل الميت، حديث (1610).
([8]) مراقي الفلاح ص300. والشرح الصغير 1/236. وشرح البهجة 2/135.
([9]) سنن أبي داود، كتاب: الجنائز، باب: كراهية الذبح عند القبر، حديث (3222).
([10]) ابن عابدين 1/629،630. والشرح الصغير 1/226. وشرح البهجة 1/125. وغاية المنتهى 1/257، 258.
([11]) مسند الإمام أحمد، حديث (6905).
([12]) المجموع 5/290.
التعليقات
0 التعليقات
جميع الحقوق محفوضة@2015 : د.حسن بن جازي الحويطات